![]() |
استغراق |
كتبت - عائشة مفتاح
"إننا لا نحاول التخلص من الأفكار، وإنما ندرب عقلك نحن نركِّز أنظارنا على الحاوية، وليس على المحتوى"، هكذا يتم شرح مهارة الاستغراق الذهني في جملة من سطر واحد، كما يوصف في علم النفس بأنه الحالة التي يغوص فيها العقل على موضوع فكري، أو حسي، غوصًا كليًا يمنعه من الالتفات إلى غيره.
لوكيش جوشي
والذي يشغل حاليًّا منصب نائب الرئيس لشؤون الأبحاث في جامعة أيرلندا الوطنية، عندما كان يدرس علم الأحياء البنيوية في مرحلة ما بعد الدكتوراة، كان على مدار ما يصل إلى 45 دقيقة كل صباح، كان جوشي يجلس على سجادة في أحد أركان شقته، ويغلق عينيه، ويركّز على صوت أنفاسه، أو على عمل أعضائه الداخلية لحظة بلحظة. ويعلِّق جوشي على تلك الممارسة قائلًا: «ساعدني ذلك على الوصول إلى نقطة السكينة الخاصة بي، أو ما أسميها نقطة الثبات الروحي».
بعد ممارسة هذا الروتين الصباحي بصفة منتظمة، وجد جوشي أنه أصبح بإمكانه أن يفكر بوضوح أكثر، وشعر بتحسن كبير، فمثلًا: لم يعد كَفّاه يتعرّقان وهو يستعد للحديث في المؤتمرات، وكذلك لم يعد يشعر بالقلق، أو يتخذ موقفًا دفاعيًّا، إذا ما قوبلت إحدى مخطوطاته بالرفض، أو احتاجت إلى إجراء تعديلات جوهرية، ساعدته تلك الممارسة -على حد ذكره- أن يعيد النظر في جميع الأمور بهدوء، وألا يتسرع في الاستجابة لمشاعره، أما الأيام التي لا يمارس فيها جوشي الاستغراق الذهني، فإنه يشعر فيها بالفارق الكبير، حيث ترتفع لديه معدلات القلق، وتقِلّ قدرته على التركيز.
يعتقد جوشي أن الاستغراق الذهني يعد من المهارات الشخصية بالغة الأهمية للباحثين، كما يحمل لتلك الممارسة تقديرًا شديدًا، إلى درجة أنه قام بتنظيم مؤتمر جامعي عن هذا الموضوع وتحدَّث فيه عن أهميته. وكذلك دشّنت الجامعة سلسلة من المحاضرات إلى جانب مجموعة من الدروس المجانية غير المُجدولة، تتناول هذا الفن.
للاستغراق عدة أشكال يمكن القيام بها، والأهم أنها لا تتطلب طقوس معينة من مكان مخصص أو ملابس معينة، فإحدى طرق القيام بالاستغراق تتمثل في تركيز الانتباه على عملية التنفس، وإبقاء العينين إما مفتوحتين، أو مغلقتين، والفكرة هنا تتمثل في تدريب الذهن على التركيز بشكل حصري على عملية التنفس، وإعادة التركيز إذا تشتت الذهن، ومن الممكن أن يركز الإنسان على المدركات الحسية، فعندما يغسل شخص ما يديه، فإنه يمكن أن يركز على شعوره بملمس بشرته وهي مبتلة، وكذلك على صوت الماء الجاري.
ذات مرة طلب مني أحد أصدقائي أن أجرب رفع رأسي إلى السماء وأظل محدقة فيها إلى أن أصل لنقطة تلاشي كل ما حولها من المباني أو الأشجار وحتى السحب، حتى تتحول السماء إلى ورقة سماوية، بعدها بفترة تذكرت كلماته حينما كنت أجلس فوق سطح مكان مفضل لدي، وحاولت تطبيق التجربة فقط لأقل من خمس دقائق، وقتها شعرت وكأنني ذهبت للتمشي بين النجوم.
أحد أشكال الاستغراق أيضًا تتمثل في تركيز الإنسان على المستقبل القريب من حياته فقط، فيستغرق فيه؛ ولا يركز على المستقبل البعيد، لأن هذا قد يدفعه للضغط على ذاته أكثر أما لو استغرق في الفترة الأقرب، وأقبل على تنظيمها؛ فسيجعله هذا يعيش عدد من اللحظات الحالمة.
انتشرت أحد المقاطع من لقاء مغني شاب، كان يقول بأنه لا يشغل باله بالمستقبل البعيد ولا يأخذ وقتًا للتخطيط له وإنما يتخذ الأمور في خطوة ثم الخطوة التي تليها، ويركز على أن يجعل من يومه أفضل أيام حياته، وأن يحب ذلك الشهر الذي يجري الآن، وتعد تلك هي أبرز وأعم صور الاستغراق.
يمثل الاستغراق عملية هامة في حياتنا؛ وعلى المستوى الشخصي؛ أرى أنها مهمة لابد منها، إذ أنها تساعد على تقضية وقت مخصص لتفريغ العقول والتواجد في منطقة آمنه، أو كأنك تختبئ من أفكارك، مهارة الاستغراق هي مهارة لابد منها يجب التوعية بها وتخصيص أوقات معينة لتأديتها.