يرقات على أجساد النساء |
حين فكرت في كتابة هذا الموضوع، كانت فكرته لاتزال غير كاملة مطلقًا، حتى أثناء الشروع في كتابة هذا السطر فهي لم تكتمل بعد، أعتقد بسبب كونها معقدة أو ممتلئة بالكثير من المُلابسات، أو لأن بها من الآلام ما لا أود مصارحة نفسي به.
في آخر عمل روائي قرأته، كان حوارًا بين البطلة -التي
تخشى على ابنتها من وضعها في روضة الأطفال بسبب انتشار الجرائم من تحرش واختطاف
وخلافه- وبين طبيبتها النفسية التي كان ردها أن تلك الجرائم هي موجودة بالفعل منذ
زمن؛ والفارق الحقيقي أن وسائل التواصل الاجتماعي هي التي ألقت الضوء بهذا الشكل
على تلك الجرائم؛ وقتها دخلت في حالة من التساؤلات العديدة.. أحقًا تلك البشاعة
موجودة في المجتمع من قبل والفارق أنها ظهرت جليه بفعل وسائل التواصل؟ أم أن إلقاء
الضوء عليها هو السبب في انتشارها؟!
ما وراء وسائل التواصل..
في الواقع دائمًا ما أواجه مشكلة في تصديق ما يقال عنه
"حقيقة" دومًا بات في مخيلتي أن للحقيقة وجهان.. أو ربما عدة أوجه! عادة
كلما سرحتُ بخيالي أجد أن العالم بعد عشر سنوات من الآن مثلًا -وربما أقل- سيصبح
عبارة عن أوجه بلاستيكية ملونة قابلة للخلع، أعتقد أن كل منّا سيحتاج جهاز شخصي
لكشف الكذب لاستخدامه حتى في المعاملات اليومية؛ وإن كان ذلك الجهاز أيضًا مشكوك
في عمله بشكل سليم؛ نظرة سوداوية بعض الشيء لكنها تحمل الكثير من سواد الواقع؛ وإن
لم تكن الحقيقة قد اندثرت بالفعل في هذا العالم؛ فإنها يومًا ما ستتلاشى من أواصلها
حتى يتطبع العالم أكمله بطابع الزيف.
هكذا تُقتل النساء..
في إحدى بيوت الطبقة المتوسطة من المدينة؛ بشقة بالطابق
الثالث كانت الفتاة بعمرها التاسع على حافة الغرفة بحيث ترى ثلث العالم داخل
الغرفة من بين الجزء الموارب من بابها؛ فيظهر أباها متصدرًا المشهد بصورته وصوته
وكفّه الذي يرتفع عاليًا وينزل قبل أن يقطع بعض السنتيمترات التي تفصله عن سقف
الغرفة ويطبع صفعة على جسد الأم؛ التي بالكاد تستطيع الفتاة أن ترى قدميها الهزيلتين
يرتعشان ألمًا في إحدى زوايا الغرفة. وفي صباح اليوم التالي تصحو الفتاة لتجد أمها
قد نزلت -بعد تجهيز طاولة الإفطار- لإحضار بعض متطلبات المنزل ومعها تبغ السجائر
لأبيها وعلى وجهها ابتسامة حانية معهودة تحمل من الحنية ما
يكفي لإخماد العالم.
بعد عشرين عامًا تتجهز الفتاة لزفافها، بجانبها أمها -التي
تقاوم مرض القلب بحالته المتأخرة يوميًا حتى تطمئن على ابنتها أولًا ثم تلقي نفسها
بين أيادي الموت مرتاحة البال-؛ وأثناء توجه العروس لركوب سيارة زفافها يقوم عراك
بين العروس وزوجها فيرتفع كف الزوج حتى يكاد يلامس السحب وينزل به فيطبع صفعة على
وجه العروس المزين بمساحيق التجميل؛ والآخر ينزل فوق جسدها المغطى بفستان الزفاف؛
فتلملم الأم بأطراف فستان ابنتها وتزج بكليهما داخل السيارة؛ وفي الصباح تظهر
العروس إلى جانب زوجها وعلى وجهها ابتسامة حانية معهودة تحمل من
الحنية ما يكفي لإخماد العالم، كانت قد ورثتها من أمها.
ضريبة حفظ المنازل..
لو سألتهن ما الدافع لتحمل تلك المهانة؟ سيُجبن: من أجل
الحفاظ على البيت. هذا ما ورثنه عن أمهاتهن -بخلاف المرض طبعًا- ما جعلني أفكر
جديًا لماذا تتشابه وجوه الأمهات الباسمة في مجتمعنا الأرعن، أكُلهن فعلًا يحافظن
على بيوتهن! كلهن صاحبات ابتسامة حانية معهودة تحمل من الحنية ما يكفي لإخماد
العالم؛ كلهن يحملن يرقات.. العديد من اليرقات فوق أجسادهن، هذا ما جال بخاطري..
فقط أتخيل أنه حينما تموت الأمهات لا تموت يرقاتهن معهن؛ بل تؤنسن أحبابهن على
الأرض، وتبعث لنا أطيافهن بين الفترة الأخرى.. تكمل تلك اليرقات أدوارهن بعدما
يرحلن.