![]() |
قصة ليلى للكاتبة أميمة العامري |
كتبت - أميمة العامري
يختمر الشخص بالكحول و تخمر النفس بالحب, فيذوب القلب و تسكب فيه المشاعر كأنها قطرات نبيذ سالت من زجاجة سكير..
لم يكن مقصدي للحانات سوى للذة ما فيها ، فطيبة الخمور لا تكمن في طعمها بل تستمد من روحها من سحرها الذي يحتل العقل إذا سكن داخل الجسم. لي كل الأعذار إذا قصدتها فإنني من من ذاب عشقا في خمورها و أخذها خليلة له في دنيا الأحزان.
وفي يوما من الأيام بينما كانت نفسي تميل من كؤوس العشق كميول حظها في الحياة و روحي تروى من تلك الملذات إذ بي ارى فتاة جميلة تجلس أمامي تصارع نفسها عن الشرب و كلما اشتد الصراع عاندتها هي بالمزيد فاقتربت من مكانها و همست لها:
قد يختمر الشخص فقدان أحدهم وقد يشرب لفقدان عمله أو لفقدانه حلما ما و لكني لا أرى في عنادك أي من هؤلاء المفقودين!
ماذا إن فقدت الروح ذاتها! ماذا إن تاهت النفس عن حالها! ماذا إن تخلت الروح عن صاحبها..! فأنا ما فقدت إلا نفسي و ذاتي...
و هل تأتين إلى هنا لاسترجاعها!
لا! آتي لأرى من فقد قلبه و أرى من خذله
عشقه, فأهيم بمن راودته أحلامه فعزفت له مقاطع الخذلان... و أشفق على من اتبع طريق
السلطة فحاز على عرش الذل و الحرمان, فبهذا اطمئن نفسي أنها داء ذاتها و دواءها و
أن ما من قاهر لها سوى حالها...
ابتسمت لما قالته و استغربت للوجع الذي يسكن كلامها,
لليأس الذي يحتويها ثم تعمدت الأسئلة حتى استمر في سماعها... وعندما هممت
بالمغادرة استوقفتني قائلة:
لا تنتظر الفرج بحجة الصبر و لا تنسى نفسك
في زقاق التضحيات اذهب إلى حيث تكتمل و يشع نور قلبك في مدينة الظلمات.
لم افهم لما تعمدت قول ذلك لي و كيف عرفت ما بداخلي دون
معرفتي شخصي لكن كلماتها بقية عالقة في ذهني حتى وصلت للبيت وعندما فتحت الباب رأيت ميرا تجلس على
الأريكة تنتظر قدومي
لم أتعمد ذلك أسف لكن هناك ما شدني للبقاء فلم أحس بمرور الساعات...
ليتك تجد ذلك الشيء في البيت حتى يشدك
البقاء فيه فيمر وقتك دون الشعور به..
أتممت كلماتها و غادرت في صمت فاستلقيت على الأريكة، رجعت
بالذاكرة إلى خمس سنوات مرت إلى حيث التقيت ميرا أول مرة في خطبة صديقي غسان, لمحت
فيها شيء ساحر كانت تمتلك صفات مختلف عن الأخريات. حسن اللباقة و البسمة التي لا
تغب عن وجهها و معاملتها مع الضيوف كان صفة جمال أخرى حينها تقدمت نحوها و قلت:
_ هل لي أن احسد صديقتك على كل هذا الاهتمام
فأنا ليس لي من يكون حذوي في مثل هذا اليوم...
_ لا مشكلة استطيع أن أكون صديقتك حتى لا تكن
وحيدا في يومك المنتظر
_ لكني لا أريدك في ذلك اليوم صديقة فقط...
عندها تعالت ضحكتها و بدا تعارفنا الجميل ثم تلاه الزواج بأشهر لكن تلك الضحكات بدأت في الانسحاب من حياتنا تدرجيا كأن لها ساحبا تعمد الأمر و حتى بعد ما رزقنا الله بإسماعيل حاولنا جاهدا تجاوز تلك الصعاب لكن بلا جدوى. صارت نقاشاتنا تنتهي بمغادرة المنزل و انهيار ميرا من البكاء إلى أن بنية بيننا جدار صلب لم يقوى عليه حبنا ذاك و صار لقلوبنا جسور صعبت على أرواحنا المرور فوقها... بات كل شيء منهارا حتى نظراتنا صرنا نتهرب منها و كأنها إذا طالت أتت بأشياء يهابها كبريائنا العنيد. بقيت أجوب بذاكرتي في ما مضى من حياتنا إلى أن خلدت لنوم.
استيقظت في صباح على أيادي صغيرة تلامس وجهي و عندما فتحت عيناي وجدت أجمل ابتسامة خلقت في الوجود انه نور قلبي إسماعيل يتمتم بكلمات جهلت معانيها محاولا إفاقتي حملته بين ذراعي و عانقته مستنشقا رائحته الزكية التي إذا دخلت أنفاسي طهرتها و كأنها تمحي كل ذنوبي..
قصدت العمل كعادتي و
بقيت اعد الساعات منتظرا مرورها حتى اقصد عالمي المظلم فأروى بسمه اللذيذ... وعند
وصولي إلى هناك بدأت في إذنابي إلى أن ربتت تلك الجميلة على كتفي قائلة:
_ أتسمح لي بالجلوس حذوك!
_ باتت تجمعنا صدقة لا لكي حاجة للاستئذان
_ ما ترك فيا الحيرة بالأمس هو انك لم تسألني
عن اسمي رغم ما جاب بيننا من حديث!
_ أحيانا عندما تجذبنا بعض الأشياء الجميلة
فننبهر بتفاصيلها تنسينا رقة سحرها الحاجة في معرفة أسمائها...
_ ليلى! اسمي هو ليلى لكن هل اعتبر هذا مديحا
أم محاولة غزل!
_ لم اعتد المغازلة فقد غادر شأني من سنوات و
لم اعد محاولة إرجاعه مرة أخرى...
_ أرى أن هذه العيون تحاول إخفاء جمال حسناء
ما، تحاول مسح صورتها من مخيلتك فيرتعب قلبك لهذه القسوة و يستسلم من شدة إصرارها
_ حسناء! من قال ذلك! أنتي مخطئة
_ ليس كل ما يقال يفهم لكن ذلك الشيء الذي نحاول عدم البوح به هو من يفضح داخلنا...
_ لما تحملين كل هذه الثقة في كلامك! لما انتم النساء لا تحاولون التنازل ! لما كل هذا الغرور الذي يسكنكم هل خلق الرجل لإرضائكم! هل كتب عليه العيش من واقع انانيتكم...!
_ ألم اقل لك أنها حسناء..!
نظرت في عينها و تعمدت إطالة النظر فاقتربت مني وقالت:
_ لا تمعن النظر فنحن النساء لا تقرأ أفكارنا من أعيننا فقط فإذا نظرتم إلى قلوبنا لرأيتم ضعف ذلك الغرور و عجز تلك الأنانية و كم التنازلات التي تحتوينا...
_ اجل فالمرأة لا تكن إلا ملاكا أليس كذلك!
_ تخلق المرأة ذات جبروت فتعمر روحها بالقوة
و القسوة لكن قلبها من يدلي بها لمرتبة العجز و الضعف فتبيت ملاكا في حب الرجل حتى
يكسر فيها شيء فيولد منه أول شيطان داخلها...
أحسست بذنب تجاه ميرا من ما قلته ليلى, مر شريط تلك
المواقف في ذهني كأنها تحاول إفاقة ما مات في داخلي. عندها التفت لها و قلت
باستغراب:
_ إذا كانت المرأة في الاكتمال الذي تروينه
لما يتسلل البرود لقلب حبيبها إلى أن يتملكه وتقف هي بلا مبالاة حتى تضيع تلك
المشاعر هباء كأنها لم تخلق...
_ بلا مبالاة! دعني أطلعك بشيء لن تفهمه, قد تجهل المرأة لأمور عديدة و تكن على غفلت لغيرها لكنها تعلم جيدا ما يتسلل لحبيبها و قد يتجاهل الرجل أحيانا للبعض الأحداث و يتغاضى على عدة أمور أخرى لكن المرأة لا تركز إلا على أدق التفاصيل على اصغر كلماته و كل معاملاته...
و قد تراها أيضا غير
مهتمة لما حولها لكنها أكثر من يهتم لذلك. و يحدث هذا عندما ترى جدران الفراق تبنى
أمام أعينها فتعجز عن الهدم و تختر الصمت على كلاما قد يشيد أكثر تلك الجدران. لا
اعلم إن حق لي ذلك ولكني اطلب منك أن تنظر و لو مرة واحد لداخلك... أن تسمع صوت
قلبك لا للعنات الكبرياء التي يمليها خاطرك, حينها فقط ستجد نفسك التي تاهت عنك.
غادرت الحانة و كل تلك الكلمات تخنق أنفاسي أحقا الذنب
ذنبي..! لما جرى كل هذا ما الذي آتى بغبار المشاكل و نثره على عالمنا المشرق.
فتحت الباب المنزل و دخلت إنها المرة الأولى التي لا أجد
فيها ميرا منتظرة لي أسرعة لغرفة النوم و لكن لم أجدها, أصابني الذعر حينها و بدأت
في الصراخ باحثا عنها و تلك الدموع المشؤمة بدأت في تملكي و عندما التفت ورائي
رأيتها تقف محتارة و إسماعيل في يدها. اقتربت مني بأياد مرتعش و قالت:
_ هل أنت بخير!
_ خلت انك تتركيني ! ارتعبت...
انهارت الدموع من عينها و أردفت بصوت يكاد يختنق:
_ تركتك! ارتعبت! لما...!
سكت و لم أقوى على الإجابة, و عندما همت بالانصراف
استوقفتها قائلا:
_ أتتركني يوما يا ميرا!
_ تسنت لي كل فرص الذهاب و لم افعل!
_ لماذا! لماذا لم تفعلي!
_ لن يكن وجعي هذا أكثر من وجعي إذا ذهبت...
_ ابقي لا تفكري في ذلك حتى اصبري لعلني ارجع
ما رحل..!
_ لا يرجع ما رحل بل يصبح ذكرى...
ثم دخلت للغرفة و تركتني أتخبط في داخلي أصارع نفسي و
أتمزق لألام التي حكيت من عيناها. عندها سارعت في الخروج و رجعت للحانة باحثا عن
أجوبة لأسئلتي و ما إن وصلت حتى حطت أنظاري على ليلى عندها ابتسمت باستهزاء و قالت
:
_ كنت أعلم أنك ستعود
_ لما فعلت هذا بي! لما قلتي لي ذلك لقد زدت
من وجعها..!
يزداد وجعها كلما كبر غرورك, يزداد وجعها كلما رأت كبريائك يمنعك على الاقتراب منها لا تنسى أن البرود جبل من جليز لا تسله إلا شعلات حب ملتهب أو صباح شمس مشرقة تليها أيام مشمسة...
أكملت ليلى كلماتها و غادرت, حتى أنه كان أخر لقاء بيننا و منذ ذلك اليوم و أنا اجبر نفسي على الإشراق لعلها تكسر غرورها و تزيل ما تجمد في حياتنا...