لقد أثبت النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قائد فذ، ورئيس دولة عظيم، وفاتح رحيم، حيث اتسمت سيرته النبوية بالعدل والرحمة حتى مع أعدائه. لم يكن يُخالف العهود ولا يغدر، بل كان يُقيم الحجة قبل القتال، ويدعو إلى السلم متى كان ممكنًا. سنستعرض في هذا المقال هدي النبي ﷺ قبل القتال وأثناءه وبعده، لنرى كيف أسس أروع معالم الإنسانية والعدالة في الحروب.
هدي النبي ﷺ قبل القتال
قبل أن يخوض النبي ﷺ أي معركة، كان يضع قواعد واضحة تنظم العلاقات بينه وبين مخالفيه من أهل الصلح وأهل الحرب وأهل الذمة. لم يكن يبادئ بالعداوة، بل كان يراعي العهود ويحترمها ما دامت قائمة. يقول ابن القيم في "زاد المعاد":
"كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب وأهل ذمة، فأمر أن يتم لأهل العهد عهدهم، وأن يوفي لهم ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إلى عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل كل من نقض عهده".
هذا التوجه يظهر بوضوح أن النبي ﷺ كان ينشد السلم قبل الحرب، ويعطي الفرصة للعدو لإعادة النظر قبل اللجوء إلى القوة.
هدي النبي ﷺ أثناء القتال
رغم قسوة الحروب وما يترتب عليها من خسائر، فقد وضع النبي ﷺ ضوابط صارمة للمقاتلين المسلمين في كيفية التعامل مع الأعداء. هذه الضوابط لم تترك أي مجال للغل أو الانتقام الشخصي، بل جعلت الهدف الوحيد هو نشر العدالة. ومن الأحاديث التي تظهر هذا المنهج ما رواه صفوان بن عسال رضي الله عنه:
"بعثني رسول الله في سرية فقال: اغزوا باسم الله في سبيل الله لا تغلوا ولا تغدروا...".
ويذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته للجيش:
"لا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن، ولا تقتلن صبيًا، ولا امرأة، ولا كبيرًا هرما، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا".
هذه التعليمات كانت بمثابة دستور أخلاقي للحرب في الإسلام، مما يعكس مدى حرص النبي ﷺ على احترام الإنسانية حتى في أوقات النزاع.
هدي النبي ﷺ بعد القتال
بعد انتهاء القتال، وعندما تتحقق الغلبة للإسلام، فإن التعامل مع الأعداء الأسرى كان يتم وفقًا لأحكام عادلة تراعي كرامة الإنسان. لم يكن الهدف من الحرب الانتقام، بل إصلاح ما أفسده العدو وإعادة الأمور إلى نصابها. يقول ابن القيم:
"كان النبي ﷺ يمن على بعض الأسرى، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسرى المسلمين، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة".
هذه الأحكام لم تكن مجرد نظريات، بل طُبقت على أرض الواقع في مواقف عديدة. ففي معركة بدر، كان عدد الأسرى سبعين، فاستشار النبي ﷺ أصحابه في شأنهم، وأخذ برأي أبي بكر في فدائهم، رغم أن القرآن أشار فيما بعد إلى أن القتل كان الأولى.
أظهرت سيرته صلى الله عليه وسلم مدى الالتزام بالعدل والرحمة حتى في أشد المواقف. لقد قاد النبي ﷺ أمة كانت تعيش في ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، وسنّ قوانين صارمة تضبط سلوك المسلمين في الحرب، وتحفظ حقوق الإنسان وتكرمها، حتى مع أعداء الدين.
إن هذا الهدي النبوي هو مصدر إلهام لكل قائد وجيش في العالم. فهو مثال حي على أن العدل والرحمة يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب حتى في أوقات الحرب، وأن القيم الإنسانية هي أساس قوة الأمة، وليست مجرد شعارات ترفع في أوقات السلم وتسقط في أوقات الحرب.
إرسال تعليق