"الموسيقى الشنيعة".. تراث الغناء الصعيدي وألوانه في السينما المصرية

 


للموسيقى أوجه عدة، للألحان ذاتها وقع غير مرئي على نفوس البشر؛ ليس فقط على مسامعهم؛ وقع يمتد بامتداد حاجة الانسان للونس، ولكن ماذا عن موسيقى بعدة أوجه، جميعها متناقضة؟! ماذا عن موسيقى تشعرك بالبشاعة والذوق الفني في آن واحد؟!

أن تَسري القشعريرة بجسدك، وكأن ما تسمعه يدفعك لكسر المشغل الذي ينبعث منه ذلك الصوت، وفي الوقت ذاته انت تستمع لمقطوعة موسيقية ليس لأي شخص أن يصنعها؛ فقط تستطيع سماعها من "النواح الصعيدي".

 

ظهورها في فيلم الهروب

أبرز ظهوره كان في فيلم الهروب (1988)، الذي يعتبر علامة من علامات السينما المصرية حتى آننا هذا؛ ولعل أبرز ما ساهم في نجاحه الممتد كانت موسيقاه المصاحبة لتتر الفيلم من صنع "مودي الإمام" والذي أوضح مؤخرًا كواليس صناعة موسيقى الفيلم مع "عاطف الطيب" مخرج الفيلم.

وكان "الطيب" هو من أحضر له تسجيلات الغناء البدوي من منزله رجوعًا لأن أصله كان من الصعيد وعلى أساسها بدأ "الامام" في تصوّر موسيقاه.

ويذكر ايضًا أن السلم الموسيقي لموسيقى الهروب هو سلم شجي أو "حزايني" ولكن ليس على وجه الخصوص أن كل من غنى بهذا السلم كان يقصد "النواح" أو "التعدد" على حد ما ذكر "الإمام" ولكنّه ترك تلك النقطة لخيال السامع.

"يا بكرتي يا بدر الديار رن الجرس رنانة

ابي اريد خدا البحور أنا حيرانة"

ويرجع أصل ذلك التراث إلى "قبائل الطوارق" والتي تنتشر في المناطق ما بين "المغرب" وحتى "نجد"، ولديهم من اللغات ثلاثة تتشابه مع اللغة العربية؛ ولكنه تشابه نسبي؛ والجدير بالذكر أن قبائل الطوارق لهم تراث ونسب في صعيد مصر.

أما عن الموسيقى المصاحبة لكلمات "الطوارق" في مقطوعة "الهروب" فـ قال عنها "الامام":

"لما أضفت أداء البدوي لموسيقتي، لم استخدمه كموسيقى تصويرية، لأن الغناء غناء...مش موسيقى، اللي عملته هو إني عزفت صوت شبه الناي (آلة الكوالا)، من سلم حجاز، بتصريف، ودي كانت بداية الموسيقى، وبعدين أضفت صوت البدوي، وألفت له مصاحبة، والمصاحبة لازم تتألف، وتتعزف، و ده مش سهل أبداً".

فكانت مقطوعة فيلم "الهروب" الأبشع والأروع على الإطلاق.

 

"غنوة ملهاش معنى و ليها كل معنى"

الخال الحاوي أحيا تراث "فاطمة قنديل" و"بيبة" امتزاج لسريالية الفن مع تراث الصعيد وألحانه مع كلمات الابنودي، ولأننا نتحدث عن قشعريرة تُسببها الموسيقى؛ فيجب أن نَذكر ما أنتجه الخال ولحّنه "ياسر عبد الرحمن".

يتحدث الصعيد عن مأساة "اختفاء ظل النخل ورجاله" بنظره "رضوان الكاشف" وإخراجه، و حتى تكتمل أركان الرائعة المأساوية "عرق البلح" يطلب "الكاشف" من "ابنودي" غنوة مالهاش معنى وليها كل معنى فيرد: "يعني انا حاوي!!" فيتذكر ما كانت تغنيه والدته في الصغر، "فاطمة قنديل" تأتي بما طلبه "الكاشف" وينجح الخال في أن يكون.. حاوي.

يا برج عالي في طريق الواحة"

لما وقع شت الحمام وراحا

يا برج عالي في طريق الغالي

لما وقع شت الحمام بالليلة"

في البداية تندمج مع ألحان "ياسر عبد الرحمن" وطبول الصعيد الهادئة؛ وفجأة تنتفض وتنتفض معك جوارحك كلها حينما تبدأ "مديحة السيد" بالتعدد والنواح على الصعيد الذي انكشف بعدما غادره رجاله وسقط نخله؛ فتشعر بالفزع الصارخ من هول الحزن المحيط بصوتها.

 

وصيت على مين لـ مديحة السيد

لم تكن "يا برج عالي" هي أداء "مديحة" الوحيد في الفيلم؛ ولكن ايضا أدّت "وصيت عليا مين" في منتصف الفيلم وكانت ايضا من كلمات الخال، ولكن لا داعي لذكر ان مجرد بدأ "مديحة السيد" بالغناء.. يدفعك للبكاء.

"زعق الوابور ع السفر انا قلت رايحين فين

رايحين تغيبوا سنة ولا تغيبوا اتنين

رايحين نغيب سنة ماتنوّحيش يا عين"

 تنوّح "مديحة السيد" نواح تنخلع به القلوب، فتضيف المأساة في الفيلم، ببراعه أم تضيف الملح الى الطعام والدفء للبيوت.. هكذا جاء صوت "مديحة السيد" في أحداث "عرق البلح" والتي جاء صوتها ايضا قبل اغنية "بيبة" في الفيلم عندما علمت بموت زوجها في الغربة اثناء عمله فراحت تعدد:

"نوح يا غراب ع اللي قتلته الغربة.. نوح يا غراب ع اللي قتلته الغربة".

عرق البلح وألحانه مأساة سينمائية صوتها الممزق يدوي في اذان كل من سمعها بحسرة من يبكي فوق اشلاء رجاله ونخلات صعيده اللائي سقطن دفعه واحدة.

 

الموسيقى عالم يهرب فيه البشر، والتراث الصعيدي عالم قلّما استطاع بشر ان يجد به ملذاته، ولكن ما إن وجدها به لمَا استطاع ان يتخلى عن قشعريرة حواسه المصاحبة لملذات سماع موسيقى الصعيد.


Post a Comment

أحدث أقدم