نجاة علي.. بين الفن والغناء وحكايات من زوايا حياتها الصاخبة

 



كانت بداية تطلعي على عالم نجاة الذهبي في كتاب صنايعي الونس عمر طاهر "إذاعة الأغاني"، في طريقه إلى بيت عمة صديقه بعدما أسرته سوريا لدرجة أنه جعلها محطة إجبارية عند أي سفر، كما أصبح صوت نجاة علي الرنان إجباري بالنسبة لي عند إعادة ترتيب قائمة الموسيقى خاصتي.


اسمها الحقيقي

"نجيَّة علي أحمد صيام" كان هذا هو إسمها عند مولدها عام 1913م لوالد كان يعمل موظفًا بسيطًا في قرية «بردين» بمحافظة الشرقية، وانتقلت أسرتها بعد ذلك إلى «دكرنس» بلد الأم ليعمل الوالد هناك ناظرًا للزراعة بإحدى القرى المجاورة، وبدأت نجيَّة رحلتها مع الفن حين التحقت هناك بالمدرسة الأميرية للبنات فكانت من بين التلميذات المكلفات بترديد الأناشيد المدرسية الخاصة بوزارة المعارف، وهناك استمتعت إلى الفونوغراف للمرة الأولى فكانت أسطوانات أم كلثوم هي أول شيء تلتقطه أذناها، ومع الوقت أدرك الأب أن لابنته صوتًا رائعًا وكان صديقًا مقربًا للشيخ المُقرئ «محمد رفعت» ويقلده في طريقة تلاوته لآيات الذِكر الحكيم. ولما وجد في ابنته الميل إلى الغناء قام بتحفيظها دورًا قديمًا يقول مطلعه "في البعد ياما كنت أنوح".


صوتان يسيطران على المشهد

"كان هناك صوتان يسيطران على المشهد: صوت العصافير القادم من خلف باب الشرفة المغلق، كان واضحًا أنها كثيرة العدد، رائقة المزاج. الصوت الثاني كان لأغنية قادمة من الطابق السفلي، ظللت أركز فيها محاولًا أن أعرف مَن التي تغني، ولم أحصل على إجابة أكيدة: ليلى مراد؟ لا. سعاد محمد؟ لا أعتقد. حورية حسن؟ مستحيل".


معرفة عمر طاهر بنجاة علي

هكذا كانت بداية معرفة عمر طاهر بنجاة علي كما حكاها في كتابه البديع، والحقيقة أنني لم أتمالك السيطرة على فضولي حينها من بهجة الوصف، ففتحت إحدى المنصات الإلكترونية، وبكامل الحماس اخترتُ صوت نجاة علي ليطغى على أجواء قراءتي للكتاب، فهبت ألحان أحمد صدقي من الهاتف وتراقصت حولي في الغرفة مُهيئة الأجواء لصعود صوت نجاة. "فاكراك ومش هنساك" أول ما ألقته نجاة علي إلى مسامعي، وفجأة شعرت وكأنني أصبحتُ سيدة جميلة من سيدات الستينيات مثلًا، وفي منتصف الظهيرة يتصاعد صوت المطربة الشابة نجاة علي من إحدى الإسطوانات الدائرة فوق الفونوجراف من داخل الغرفة التي تتوسط المنزل. على كل حال، كان صوت نجاة علي لحنًا قادمًا من عالم آخر!


اللقاء الأول بين نجاة علي وأم كلثوم

حدث اللقاء الأول بين نجيّة وأم كلثوم حينما زارت الأخيرة قرية "ميت طريف" القريبة من "دكرنس" لإحياء إحدى الحفلات. وهناك تعرفت إلى الطفلة صاحبة الصوت الشجي. وفي العاشرة من عمرها عادت الطفلة مع أسرتها مجددًا إلى بردين حيث أقامت بها ثلاث سنوات، كانت تتردد خلالها إلى منزل الأسرة «الأباظية» وقد عُرف عنها شغفها بالطرب والغناء. وكانت الأسرة تقيم حفلات وليالٍ ساهرة تدعو فيها الأصدقاء وأهل الفن في مصر. وفي إحدى المرات استمع إليها "محمد سعيد" الموظف بشركة "أوديون" للتسجيلات التجارية، والذي كان أحد ضيوف الأسرة الأباظية الذي حضر مع السيدة فتحية أحمد لإحياء إحدى الحفلات داخل منزل الأسرة، وبعد أن أثنت السيدة فتحية على أدائها، عاد الموظف إلى القاهرة ليخبر مدير الشركة أن في الشرقية طفلة موهوبة سيكون لها مستقبل باهر إذا تم تدريبها وتأهيلها للغناء، وأوفدت الشركة فعلاً مندوبًا ليتفاوض مع أسرتها في الأمر حتى وافق الوالد في النهاية.

انتقلت أسرتها على حساب شركة أوديون إلى بيت متواضع في القاهرة. وكانت نجيّة تتلقى دروسًا يومية على يد كل من داود حسني وصَفر علي، واستمرت هذه الحال سنة كاملة حتى سجلت أولى أسطواناتها وهي مونولوج «سر السعادة» من كلمات حسين حلمي المانسترلي وألحان محمد القصبجي، وقد أحدث هذه الأسطوانة نجاحًا واسعًا مما جعل الشركة تتعاقد معها على تسجيل 10 أسطوانات كل عام لمدة أربع سنوات كاملة. وكان أجرها عن الأسطوانة الواحدة يتراوح من عشرة إلى خمسة عشر جنيهًا. واستمرت هذه الحال حتى شجعها في أحد الأيام المثَّال محمود مختار على إحياء حفلة غنائية على مسرح الأزبكية.

"كانت الأغنية في نهايتها عندما هبطت إلى صالة البيت، لكن المقطع المميز كان لايزال يرن في أذني. كانت العمة تقترب بصينية تداخلت فيها الألوان بطريقة تفتح النِّفس. حاولت أن أحمل عنها الصينية على سبيل الذوق، لكنها رفضت طالبة مني أن أتبعها إلى الخارج. في الطريق سألتها عن اسم المطربة التي انتهت أغنيتها للتو. قالت بسرعة: نجاة علي" 


وقوعها في غرام أنيس الطوبجي

وقعت نجاة في غرام "أنيس الطوبجي" الظابط المهندس الذي أقنعها باعتزال الغناء والفن عمومًا بعدما كانت صنعت الكثير من المجد منذ طفولتها، فتزوجت به واستقرت معه في مرسى مطروح وأنجبت طفلها الأول "ممدوح"، وبعد خمس سنوات كان الغرام قد ذبل فإنفصلت عن الطوبجي وعادت إلى الغناء، وتزوجت مرة أخرى. انفصلت عن زوجها الثاني الأمير فؤاد الأطرش بعد 7 سنوات وذلك لرفضها الإنجاب، ثم تزوجت "فائق السويفي" وانجبت منه ابنها الثاني "محمد"، وقد أخبرها الطبيب أن الولادة لن تكون طبيعية، كانت الجراحة القيصرية مجهدة وعسيرة جدًا فخرجت منها نجاة وهي تعرف أنها لن تعود إلى الغناء من جديد، لأن العملية أثرت على صوتها وجعلت نفسها قصيرًا، فاعتزلت في بداية الخمسينيات.

يحكي عمر طاهر في كتابه على سيرة أغنية "فاكراك" والتي أفتتح بها "إذاعة الأغاني"، عندما تزوجت للمرة الثالثة والأخيرة استقرت في بيت جديد، وبعد فترة وجدت أنجارهم الجديد هو حبيبها وزوجها الأول الذي هجرت الفن من أجله وقد ذبل لونه تمامًا.. وقد تزوج من ابنه خاله وشاء القدر أن يكون منزلهما الجديد إلى جوار منزل نجاة علي. وذات مرة وجدت نجاة زوجة حبيبها القديم تزورها باكية ترجوها أن تزور زوجها المريضالذي ينتظر الموت خلال أيام، وأنها تعلم بقصة حبهما من قبل الزواج، وبعد أن اخبرت نجاة زوجها بكل شيء كان نبيلًا وطلب منها أن تزوره، ولا يدري أحد ما دار في هذة الزيارة التي رحل بعدها "أنيس الطوبجي" بأيام.


الانسحاب من الساحة الفنية

آثرت نجاة علي أن تنسحب نهائيًّا من الساحة الفنية وخصوصًا الحفلات العامة أواخر الخمسينيات والسبب في ذلك يعود إلى مجموعة من الأسباب المنطقية على رأسها أنها لم تكن من البداية لديها رغبة حقيقية في احتراف الفن، خاصة وأن خطوها نحوالفن منذ سن مبكرة لم يجعلها تعش طفولتها بشكل طبيعي متكمل، وكانت من نجاة أصلًا اللاتي يفضلن الحياة الأسرية المستقرة بين الزوج والأولاد بعيدًا عن الأضواء والشهرة، وبالطبع كان خضوعها للولادة القيصرية التي تسببت في قصر نفسها سبب أساسي في ذلك الاعتزال، إضافة إلى إدراكها أن الساحة الفنية تبدلت على المستويات الاجتماعية والثقافية وليست الفنية فقط فآثرت الابتعاد والاحتفاظ بصورتها المشرقة لدى الجمهور.

 لم تكن نجاة علي مجرد مطربة من مطربات الزمن الجميل، فقد كانت واحدة من ألمع نجمات الغناء في القرن العشرين، وعاشت لفترة طويلة في مدينة الإسكندرية عقب اعتزالها الفن. وتقديرًا لدورها الكبيرة في الحياة الفنية منحها الرئيس الراحل محمد أنور السادات جائزة الجدارة عام 1978م قبل أن تفارق الحياة بعد صراع مع المرض بالمستشفى الجوي بالعباسية في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1993م، لتظل رنّات صوتها ممتدة في مقطعها المُزهر.. وإن رُحت مرة تزور عِش الهوى المهجور سلّم على قلبي.

أحدث أقدم